الفقه والتقدمية- استشراف المستقبل في الفكر الإسلامي

المؤلف: علي بن محمد الرباعي09.02.2025
الفقه والتقدمية- استشراف المستقبل في الفكر الإسلامي

عرف عن علماء الشريعة في سالف العصور اهتمامهم البالغ بفنون متنوعة تثري فهمهم العميق للشريعة الإسلامية؛ فمنهم الفقيه الذي يمتلك إلماماً بالفلسفة، ومنهم الفقيه المتبحر في اللغة العربية وآدابها، وغير ذلك من المعارف، وقد ساهمت الفلسفة على وجه الخصوص في إبراز أسماء بعض الفقهاء الذين استبقوا عصرهم بأفكارهم النيرة، وتمكنوا ببراعة من تجاوز الأساليب التقليدية النمطية في الفقه، ويمكن الجزم بأنهم تفوقوا في التفكير الإبداعي المبتكر، أو تبنوا ما يعرف بـ "الرؤية التقدمية"، ومن بين هؤلاء الفقيه الفيلسوف ابن رشد.

ومن بين الكتب التي أعتز بها أيما اعتزاز، والتي لا تزال عالقة في ذهني أجزاء كبيرة منها، كتاب "الفنون" للإمام أبي الوفاء، علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي، والذي يزخر بالردود القوية، والأشعار العذبة، والمواعظ المؤثرة، والفتاوى السديدة، والتاريخ الموثق، والفقه العميق، والأصول المحكمة، والحكم البالغة، والمناظرات الجدلية التي تأسر العقل وتستولي على الفكر، وهذا خير دليل على سعة علم الرجل وغزارة معرفته، ويكفي أن نعلم أن كتابه قد بلغ ثمانمائة مجلد ضخم.

إن للفقه في دين الإسلام الحنيف أثراً بالغاً في تعزيز التفكير التقدمي وتوسيع آفاق الطرح، ولعل هذه النزعة متأصلة في بعض العقول النادرة الفذة، وهناك شواهد تاريخية عديدة تدل على ذلك؛ منها ما حدث في عهد الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فخلال مناقشة الصحابة الكرام عند فتح العراق في السنة السابعة عشرة للهجرة حول كيفية تقسيم الأراضي التي غنموها، تجلى الفقه التقدمي، وقدم رؤية حكيمة تراعي المصلحة العامة، فبدلاً من تقسيم الغنائم، والتي كانت في معظمها أراضٍ زراعية خصبة، على المقاتلين الذين قد لا يملكون الخبرة الكافية للتعامل معها، كونهم جنوداً لا فلاحين، تم الاتفاق على وقف هذه الأراضي، وتخصيص ريعها لبيت المال ليعود بالنفع على الأمة بأسرها.

وبحكم التخصص الأكاديمي، قمنا بدراسة وتدريس مسائل فقهية افتراضية لا حصر لها في مختلف أبواب الفقه، سواء في العبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية، أو الجنايات والحدود، ولعل بعض هذه الفرضيات لم تقع بالفعل في عصر الفقيه الذي افترضها، إلا أنهم تصوروا إمكانية حدوثها، فوضعوا لها أحكاماً مستنبطة من خلال الاجتهاد الفرعي، المستند إلى دلالة اللفظ العامة، عملاً بمبدأ "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، أو عن طريق القياس المنطقي السليم.

ولعل مقولة "لا اجتهاد مع النص" قد أعاقت مسيرة بعض الفقهاء الذين يتمتعون بسعة أفق واسعة، وذكاء حاد يجعلهم من أفذاذ عصرهم، إلا أنهم فضلوا السلامة والحيطة باتباع النهج التقليدي دون الالتفات إلى معطيات العصر الحديث ومنجزاته المتطورة، مع العلم أن من صور احترام النصوص الشرعية وتقديرها الاجتهاد فيها، وإعمال العقل في فهمها وتفسيرها، فالاجتهاد النوعي يحرر النص الشرعي من الجمود والانغلاق، ويفك قيوده من احتكار بعض الفقهاء الذين ما زالوا يرددون مقولة "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، مفضلين التريث والتردد باعتبارهما سبيل السلامة والنجاة.

وربما كان من واجب الفقهاء أن يتقدموا على المجتمعات، وعلى العلماء والمخترعين والمكتشفين بفتاوى واقتراحات مبتكرة، تؤكد أن الفقيه يعيش عصره بكل تفاصيله، ويتفاعل مع واقعه بكل تحدياته، ويربط الماضي العريق بالحاضر المزدهر والمستقبل المشرق، في ظل ما تصدره المجتمعات من عادات وتقاليد وأنماط سلوكية جديدة، مما يفرض ثقافة وسلوك التحولات المستمرة، وكلما تأخر الفقيه عن الركب، أصبح قوله مجرد تابع لا متبوع.

في الماضي القريب، كان هناك تشدد كبير في مسألة رمي الجمرات قبل الزوال، ثم تغير الأمر واتسع النطاق، وأصبح الرمي متاحاً في كل وقت، وكانت هناك صرامة بالغة في تطبيق عقوبات التعزير، وربما مبالغة في بعضها، وفي فترة من الفترات سمعنا عن التعزير من خلال العقوبات البديلة التي تسهم في إصلاح سلوك المذنب وتحقيق النفع العام، وتجنب تحميل المال العام أعباء إضافية من خلال إيواء السجناء وتوفير احتياجاتهم من مأكل ومشرب وحراسة.

وفي هذا العصر الذي يشهد ثورة الذكاء الاصطناعي، لن يكون من المستغرب أن يتقدم فقهاء الشريعة والقانون على المجتمعات بخطوات واسعة، وأن يسبقوا قرارات الحكومات بمراحل متقدمة، فمن خلال استقراء كتب الفقه والدساتير، نلاحظ مدى استشراف بعض العلماء السابقين للمستقبل، وذلك من خلال مقاربات ومقارنات دقيقة، وتأويل منطقي سليم، واستحضار للأحداث المستقبلية وكأنها واقع معاش، خاصة وأننا نشهد اليوم تنافساً محموماً في مجال العلم التجريبي، الذي يقطع المسافات بسرعات فائقة نحو اكتشاف الحقائق والتحقق من الفرضيات، ويلغي العديد من القناعات والمسلمات القديمة.

ولعل فقهاء اليوم في عالمنا الإسلامي يدركون تمام الإدراك أن التقنية الحديثة، بما حققته من رقمية مذهلة تجاوزت كل التوقعات، وتخطت البديهيات والأعراف المعهودة، بدءاً من علوم الفضاء والطب والجينوم والبيئة والذرة، وليس انتهاء بالعمليات الجراحية الدقيقة؛ تضع الفقيه في حيرة من أمره إن لم يكن على أهبة الاستعداد لمواكبة هذا التطور المتسارع، فهل يكون الفقه والتشريع في هذه الحالة سابقاً أم لاحقاً؟!!!

وكم من القضايا المستجدة والنوازل الطارئة في عالمنا اليوم غاب عنها صوت الفقهاء الثقات، وذلك بسبب شعور البعض بالقلق من مآلات الاجتهادات غير المنظمة التي لا تستند إلى مؤسسات معتمدة، مع العلم أن الأصل في الفقيه هو الاستقلالية والحرية في إبداء الرأي، بما يبرئ ذمته أمام الله أولاً، ولا يحرجه مع مجتمعه ثانياً، كما أن الفقه وأصوله ليسا حكراً على دارسي الشريعة وحدهم، بل يشترك معهم في هذا المجال المتخصصون في اللغة العربية والعلوم الإنسانية على اختلافها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة